منذ نحو 118 عاما أصدر الشيخ عثمان الطبّاع، أحد أعلام مدينة غزة، فتوى يحرم فيها “بيع الأراضي لليهود مباشرة أو بواسطة

السماسرة الخائنين لما فيه من إضعاف قوة المسلمين الحسية والمعنوية وتقوية أعداء الملة والوطن، (لا) سيما وقد ظهر أن

قصدهم إبادة الوطنيين بأجمعهم وأن يستولوا بشتى الوسائل على بلادهم وأوطانهم كما لا يجوز موالاتهم ومعاضدتهم”.

وردت هذه الفتوى في مخطوطة نادرة ونسخة فريدة ووحيدة بخط يد الشيخ الطبّاع، وهي واحدة من بين مجموعة كبيرة من

المخطوطات والكتب والسجلات التاريخية، تخضع حاليا للترميم والصيانة الوقائية، في سياق مشروع تنفذه مؤسسة “عيون

على التراث” في غزة، بتمويل من المكتبة البريطانية ومتحف هيل.

والمخطوطة موسومة بعنوان “منتخبات الفتاوى العثمانية الغزية”، كتبها الشيخ الطبّاع عام 1904، وتتكون من 105 ورقات من

“القطع الكبير”، وقد توفي في العام 1950 قبل أن يستكمل كتابة باقي فصولها، التي توقفت عند 20 فصلا، احتوت على فتاوى

في قضايا كثيرة، خاصة السياسية منها، وما يتعلق ببيع الأرض، وخطورة التعامل مع أعداء الأمة، لمجابهة المخططات الصهيونية آنذاك.

واليهود المشار إليهم وفق فتوى الشيخ الطبّاع “لم يكونوا أهل ذمة ولا أمان ولا عهد لهم من خليفة المسلمين، وإنما هم

شذاذ متشردون من الآفاق فلا يجوز تمكينهم من ديار المسلمين وبيعهم الأراضي التي كان ثمنها دماء الأبطال المجاهدين،

وكذلك تحريم السمسرة والتوسط في البيع لهم، بل ظهر أن ضرر السماسرة أشد من ضرر اليهود أنفسهم لأنهم يدلونهم

على كل طريق تعينهم على الوصول لغاياتهم ويسهّلون لهم العقبات”.

ودعّم الطبّاع فتواه بما تقرر في كتب المذاهب الأربعة أنه “يحرم أن يباع إلى أهل الحرب والفتنة ما فيه تقويتهم على الحرب

كسلاح وخيل ولا يحمل إليهم ولو بعد صلح، وبيع الأراضي والتوسط فيه إليهم أشد وأضر من بيع السلاح والخيل، ومن لم

يتمسك بدينه ويعمل بأوامره ويتجنب نواهيه وتظاهر بارتكاب ما حظره الشرع فهو فاسق متجاهر تجب إهانته ومقاطعته”.

مراحل الصيانة الوقائية:

رنيم موسى شعبان، فتاة عشرينية، حاصلة على درجة الماجستير في الأدب والنقد، واحدة من أفراد الطاقم النسوي القائم

على مشروع الصيانة الوقائية للمخطوطات.

تتعامل رنيم مع مخطوطة الطبّاع بكل رقة وحنان كطفل حديث الولادة بحاجة إلى رعاية خاصة، وتقول وهي تمسك

بالمخطوطة بين كفيها “هذه ليست مجرد أوراق صفراء قديمة، إنها كنز حقيقي، ولها قيمة علمية وتاريخية وسياسية”.

وتمر عملية الصيانة الوقائية للمخطوطات والدفاتر والسجلات والكتب النادرة بـ4 مراحل، تلخصها رنيم، وهي: مرحلة الترميم

وتشمل إعادة الترقيم والتنظيف الجاف لإزالة ما علق بها على مر السنين الطويلة من غبار وحشرات دقيقة ومن ثم تطهيرها

وتعقيمها باستخدام محاليل خاصة، ومرحلة إعداد تقرير مفصل يتضمن المعلومات الأساسية عن المخطوطة، كالمؤلف

والناسخ وعدد الورق، وهي بمثابة “هوية المخطوطة”، ومرحلة الأرشفة الرقمية.

وفي المرحلة الرابعة يتم وضع المخطوطة في بيئة مناسبة داخل صناديق خالية من الحموضة لإطالة عمرها، وهي صناديق

باهظة الثمن توفرها المكتبة البريطانية ومتحف هيل.

وتقول دعاء ياسر دويمة، التي خضعت برفقة زميلتها رنيم وأخريات لتدريب مكثف للتعامل مع المخطوطات، بعد منح المخطوطة

رقما متسلسلا يخضع لنظام أرشفة عالمي مختص بأرشفة الوثائق التاريخية المعتمدة دوليا من “اليونسكو”، داخل أستوديو

متخصص بالأرشفة الرقمية هو الأول من نوعه في غزة وتابع لمؤسسة “عيون على التراث”؛ يتم تصوير المخطوطة بمعدات

عالية الجودة والدقة، ورفعها على موقعين معتمدين على شبكة الإنترنت، لتكون متاحة أمام الباحثين والمختصين حول العالم.

كنز تاريخي:

وتقول حنين العمصي المديرة التنفيذية لمؤسسة “عيون على التراث” والمشرفة على مشروع ترميم المخطوطات إن

المشروع يختص بمجموعة كبيرة من المخطوطات عملت المؤسسة على مدار سنوات لإنقاذها من الضياع والاندثار، وقد

جُمعت من مكتبات علماء ومؤرخين ومفكرين من أعلام غزة على مر العصور.

وهذه المجموعة -وفق العمصي- من المجموعات الفلسطينية القيّمة والنفيسة، بما تحتويه من كنوز حضارة إنسانية، خاصة

المخطوطات العربية والإسلامية، التي تعد من أهم وأرقى المخطوطات في العالم، فلكل مخطوطة قصة وحكاية، وهي إرث

حقيقي للأجيال القادمة، وتثبت في كثير منها حقائق تتعلق بتاريخ فلسطين وتدحض مزاعم واهية، كما ورد في مخطوطة

الشيخ الطبّاع من فتاوى ذات بعد سياسي لقضايا معاصرة.